من يريد أن يتحدث في موضوع العلمانية واللائكية فليتحدث بهدوووووووء
إقرؤوا هذا المقال المهم
سامي براهم (باحث جامعي في إختصاص الحضارة): العبرة بفصل السّياسة عن كلّ إعلاء أو قداسة دينية أو فلسفية أو إيديولوجيّة
الشروق 16مارس2011
في رأي الباحث الجامعي في اختصاص الحضارة سامي براهم فإن الفكر العربي المعاصر بكلّ اتّجاهاته لا يزال يخوض في العلاقة بين الدّين والسّياسة دون أن يحسم هذه الإشكاليّة المعقّدة لصالح مقاربة مّا، فلا دعاة الفصل تمكّنوا من صياغة مقاربة متينة تحقّق حياد الدّولة عن الشّأن المدني العام في سياق ثقافي يقوم على التّداخل العضوي بين المجالين الدّيني والسّياسي بشكل يؤثره على كلّ مناشط الحياة، ولا دعاة الوصل تمكّنوا من إعادة تنظيم العلاقة بين الدّيني والسّياسي بشكل يضمن مدنيّة الشّأن العام القائم على عقد المواطنة دون اعتبار التّمايز العقدي الذي تمثّله ثقافة الملّة القائمة على الانتماء إلى رابطة المشتركين في العقيدة .
وبقي كلّ فريق مستمسكا بأطروحته، لا يحاول تفهّم وجهة النّظر المقابلة ويكتفي بالرّدود والحجج المتعارف عليها، ممّا يدعو إلى استنطاق الأطروحتين لتمثّل منطقها الدّاخلي واختبار وجاهة التّحفّظات التي يبديها كلّ فريق.
تحفّظات دعاة الفصل
يرى هؤلاء أنّ السّياسة ـ باعتبارها نشاطا يهدف إلى تنظيم شؤون النّاس ـ هي فنّ الممكن ومجال الاجتهاد والتّدافع والاختصام والمناورة تدور مع المصلحة حيث دارت ومع الغلبة حيث تحقّقت تتساوى فيها حظوظ النّاس في الحكم ولا تتفاضل المشاريع السّياسيّة وفق أي اعتبارات ماورائيّة ولكن بما تعكسه من تعبير عن إرادة الشّعب وتحقيق لمصالحه . هذه القيم التي تحقّق الحريّة والعدل والمساواة تضمن حسب أصحاب هذا الطّرح حقوق المؤمنين والملحدين على حدّ سواء وتحمي الدّين نفسه باعتباره شأنا خاصّا يتعلّق بضمير المواطنين.
وكلّ نزوع إلى الوصل بين الدّين والسّياسة سيؤدّي إلى تدخّل المقدّس ليرهن الشّأن العامّ إلى اعتبارات ما فوق تاريخيّة مسقطة على الإرادة الحرّة للمواطنين فتتفاوت حظوظ المشاركة السّياسيّة باعتبار شرعيّة المرجعيّة وتخضع لتأويلات تمليها مصالح فئة رجال الدّين التي كانت دائما تكرّس التّفاوت بين فئات المجتمع فضلا عن ارتهان الشّأن العام تشريعا وقيما وسلوكا إلى ثوابت وقطعيّات مفروضة على النّاس لا مجال فيها للاجتهاد .
ويخشى أصحاب هذا الفريق من أن يُواجَهُوا أثناء خوضهم لغمار التّدافع السّياسي مع أصحاب المرجعيّة الإسلاميّة بمن يلتجئ إلى الآية والحديث والإجماع والقياس لتبكيت الخصوم واستثارة المشاعر الدّينيّة للشّعب لفرض مشروع ديني تدلّ العديد من المؤشّرات ـ خاصّة بعد صعود الحركات السّلفيّة المتطرّفة ـ على نزوعه الاستبدادي الثّيوقراطي. لذلك يصرّ دعاة الفصل على أنّ الدّيمقراطيّة ليست مجرّد آليّة لحسم التّداول على السّلطة بشكل سلميّ بل هي قبل ذلك منظومة من القيم الإنسانيّة الضّامنة للحقوق والحريّات وهي كلّ لا يتجزّأ تحت أيّ ظرف من الظّروف وغير قابلة للمساومة أو الاستفتاء.
وفي مقابل ذلك يُستمسك الكثير من دعاة الفصل بالفهم الحرفي للدّيمقراطيّة باعتبارها حقّ الأغلبيّة في الحكم وحقّ الأقليّة في المعارضة ويرفعون بكلّ ثقة شعار الاحتكام إلى الشّعب الذي إذا خُيّر بين الإسلام والعلمانيّة فسيختار «الحلّ الإسلامي».
تحفّظات دعاة الوصل
أمّا تحفّظات هذا الفريق فتتأسّس على الاعتقاد الرّاسخ في إمكان قيام مشروع مجتمعي يحقّق العدالة والتّنمية انطلاقا من المرجعيّة الدّينيّة كما أنّ الفصل بين الدّين والسّياسة يناقض رسالة الإسلام القائمة على أنّ الإسلام دين ودولة عقيدة وشريعة، ففصل الدّين عن الشّأن العامّ سياسة وتشريعا وقيما وسلوكا وحبسه في ضمائر المؤمنين به هو من قبيل {يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض}.
كما أنّ تبعات الفصل حسب هذا الفريق ستكون كارثيّة بما يستتبعه فصل الدّين عن التّشريع والأخلاق من تدمير كلّ ما تعدّه الأديان ولا سيما الإسلام مقوّمات المجتمع السّليم مثل مؤسّسة العائلة والزّواج ونظام المحارم والمحرّمات وقيم العفّة والمصلحة المقيّدة بضوابط الشّرع خاصّة في سياق ما تعرفه المنظومة القيميّة والتّشريعيّة الغربيّة من مراجعات جذريّة مستفزّة للضّمير الدّيني وذلك لصالح تجريب تشريعيّ وإيتيقي جديد يؤسّس « لروحانيّة وضعيّة» لم تضبط بعد مرجعيّاتها بشكل دقيق، ولعلّ من أهمّ مظاهرها ما أصبح يُعرف بحقّ اختيار الانتماء إلى النّوع الجنسي وما استتبعه من تقنين زواج المثليين وحقّهم في التبنّي وتشكيل عائلة «مثليّة الوالدين homo parentale» فضلا عن حقّ المعاشرة الجنسيّة قبل الزّواج وإطلاق حقّ الإجهاض..
ولعلّ أقسى المظاهر الدراماتيكيّة لفكّ الارتباط بين الأخلاق الدّينيّة والتّشريع الوضعي الجدل القانوني الحادّ الذي يطرحه في الغرب مشكل الموت الرّحيم euthanasie وما يثيره من تساؤلات رهيبة عن مدى أحقيّة الإنسان في اتّخاذ قرار بوضع حدّ لحياته أو حياة أحد أقربائه المرضى . ويعتبر أصحاب أطروحة الوصل أنّ الإنسان لا يمكن له أن يستغني بالعقل عن الوحي في بناء الاجتماع البشري. ويتفاوت المؤمنون بهذا الطّرح أثناء انخراطهم في الشّأن العام في تحديد ما يجوز فيه الاجتهاد وحجم القطعي وحدود التّأويل .
إنّ التّحفّظات التي يقدّمها كل من الفريقين تتوفّر على قدر من الوجاهة والمصداقيّة حسب تقديرنا كما أن تخوّفاتهما جديرة بالاحترام والدّرس. غير أنّنا نعزو سوء التّفاهم هذا إلى الكثير من الخلط في المفاهيم والتّصوّرات لدى كلى الفريقين على حدّ سواء ممّا يدعو حسب ما يتراءى لنا إلى إعادة النّظر في العديد من المسلّمات التي تحكم وعينا السّياسي ومعرفتنا الدّينية.
1 ـ مفهوم السّياسة:
منذ اليونان عرّف الفلاسفة السّياسة باعتبارها تدبيرا للنّفس والجسد والمدينة، ثمّ تطوّر المفهوم ليختزل في شؤون الحكم المركّز في أيدي فئة قليلة بمقتضى الغلبة والسّيطرة في العصور الوسطى وبمقتضى العقد الاجتماعي منذ عصر الحداثة. ثمّ تطوّر المفهوم بعد نضج مباحث الأنطروبولوجيا السّياسيّة وتحرّرها من النّزعة الاستعماريّة وانفتاحها على أنماط من التّدبير السّياسي كثيرا ما عدّها المستشرقون والمؤرّخون الغربيّون بدائيّة متخلّفة وذلك في سياق تقسيم تفاضلي مركزي بين مجتمعات ما قبل الدّولة ومجتمعات الدّولة.
وحصيلة هذه المباحث الانتباه إلى أنّه حيث وجدت مجموعة بشريّة وجدت السّياسة مهما كان نوع المنشط الذي يجمع أفراد تلك المجموعة وذلك في سياق ما يسمّى بحركيّة المجموعات التي تخوّل للأفراد أن يتقاسموا أعباء حياتهم بصورة تشاركيّة توزّع الأعباء والمنافع، أو استبداديّة تفرض الأعباء وتحتكر المنافع. ويؤكّد هذا التّصوّر على أنّ التّمييز الحدّي بين الدّيني والسّياسي لا معنى له إذ يقوم المنشط السّياسي لفرض مشروعيّته على خطّة الإعلاء والتّبرير انطلاقا من مرجعيّة دينيّة أو فلسفيّة أو إيديولوجيّة أو تاريخيّة.. كما أنّ المناشط الدّينيّة ذات الطّابع الجماعي سياسيّة بالضّرورة لأنّها تقوم على تنظيم وهيكلة وتسيير وتوزيع مهام وتبادل منافع ماديّة أو معنويّة معجّلة أو مؤجّلة، فشعائر الصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ بهذا المفهوم مناشط سياسيّة باعتبارها تجمع النّاس وتنظّمهم وفق خطّة لها أهداف وقواعد وضوابط وتتنازع على تحديدها مؤسّسات الدّولة والمجتمع ممّا يدلّ على أنّ الدّين لا يمكن أن يكون شأنا شخصيّا في حدود ضمائر النّاس لأنّه شأن عامّ يمكن استثماره بشكل تلقائي أثناء الفعل السّياسي فيؤثّر على هيئة الدّولة وخيارات الحكم وأمن المجتمع والعلاقات بين أفراده والتّشريعات التي تنظّمه.. يؤكّد ذلك من جديد أنّ الدّعوة إلى الفصل الحدّي بين الدّيني والسّياسي ضرب من الوهم الإيديولوجي المحكوم بخوف من قطعوا معرفيّا وسلوكيّا وقيميّا مع الدّين من استثمار الشّعور الدّيني الغالب على الشّعب لحسم المعارك السّياسيّة والفكريّة بشكل غير متكافئ. وهوخوف مشروع في ظلّ عدم تنظيم العلاقة بين المجالين بشكل يوازن بين حريّة المعتقد وحريّة الممارسة السّياسيّة .
2 ــ الكتاب المقدّس
إذا كان الشّأن الدّيني سياسيّا بالضّرورة يجمع بين مجالين متداخلين بشكل عضوي لا فكاك بينهما، ويستمدّ حيويّته من انخراط المؤمنين به في الشّأن العام وانتظامهم طوعا في نظامه المعرفي القيمي فما علاقته إذا بالعالم ما فوق التّاريخي والشّرعيّة العلويّة والأحكام المطلقة؟إنّ الصّلة بين عالم الشّهادة وعالم الغيب هي نصّ التّنزيل الذي وسم في الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة بالكتاب المقدّس، ولعلّ مردّ ذلك الوصف أنّ أجزاء من التّوراة ــ كما يعتقد اليهود والمسيحيّون ــ كتبت بيد الله في شكل ألواح أنزلت من السّماء واعتبرت مقدّسة لذاتها فضلا عمّا حوته من تعاليم. وبقيت تلك الألواح محلّ تقديس وتبرّك في شكل طقوس جماعيّة خاصّة نجد صداها إلى اليوم في الشّعائر اليهوديّة . إنّ هذا المعنى للقداسة لا يعبّر بصدق عن تمثّل الضّمير الإسلامي لكتابه إذ يعدّ وصفه بالمقدّس غير دقيق فلم يطلق الله على نصّه اسم الكتاب المقدّس بل هو القرآن والفرقان والكتاب والتّنزيل والذّكر.. كما وصفه بالحكيم والكريم والمبين والهدى.. وجميعها سمات وظيفيّة تؤكّد على وصف القرآن من خلال أثره الموضوعيّ المفترض في التّاريخ.
وتتأكّد هذه السّمات من خلال الدّعوة لتدبّر آياته والنّظر فيها وتعقّلها والاهتداء بهديها . وهذا التّصوّر عن القرآن بعيد عن القداسة بالمفهوم الذي عليه التّوراة في اليهوديّة والمسيحيّة، إذ القداسة في أبرز معانيها تقوم على الإعلاء والإطلاق والبداهة والجبريّة والنّهائيّة والخرق والرّهبة والحجر، وهي معان وإن كان التديّن الفِرقي والعامّي يجيش بها فإنّ مباشرة النّصوص لا تصدّقها بل توازيها دلالات وقيم تأويليّة أخرى:
ففي مقابل تلك المعاني يقوم نصّ التّنزيل على عالم دلاليّ يزخر حيويّة ويتشكّل من شبكات معنويّة متقابلة مثل الحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفصّل، والعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمبيّن والمفسّر والنصّ، والظّاهر والباطن، والفحوى والمشترك.. وكلّها مستويات من الدّلالة ترسّخ جملة من القيم.
فالأمر لا يتعلّق حسب تقديرنا بالفصل بين الدّين والسّياسة ولا بتحييد الدّين عن الشّأن العامّ ولا بدنس السّياسة وارتهانها لعالم لا أخلاقي قائم على المناورة والمؤامرة، ولكن بفصل السّياسة عن كلّ إعلاء أ إطلاق أو قداسة أو سواء كان مصدرها ديني أوفلسفي أو إيديولوجيّ أوثقافي.
Par : إذاعة تونس الحرة / من أجل حماية ثورتنا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire