قوة عاملة هشّة ومستغَلـَّة
هذا من ناحية التشريع، أما من الناحية الواقعية فمظاهر اضطهاد النساء عديدة ومتعددة. فوضعهن في الشغل متردٍّ. فرغم الإقرار بحق المرأة في العمل فإن نسبة النساء النشيطات من بين الإناث اللواتي هن في سن الشغل لا تتجاوز 24.2% مقابل 67.8% للذكور سنة 2004 وكانت تلك النسبة في حدود 22.9 % قبل عشر سنوات أي أنها لم تطور كثيرا. ويمثل النشيطات 26.6% من عموم النشيطين من الجنسين أي أنه على 4 نشطين نجد امرأة واحدة مقابل 3 رجال، وهي نسبة ضعيفة لا مقارنة بالدول الأوروبية والآسيوية فحسب بل مقارنة حتى ببعض البلدان العربية والإفريقية. ولا يوجد ما يدلّ على أنّ الحكومة عازمة على تطوير حظوظ المرأة في الشغل إذ أن التوقعات الرسمية لسنة 2019 تؤكد أن معدّل نشاط النساء لن يتجاوز 26 %. وما من شكّ في أن سياسة النظام الرأسمالية التابعة المُوَلّدَة باستمرار للبطالة والفقر، إضافة إلى الذهنية العامة التي تعيد إنتاجها هذه السياسة والتي لا ترى في العمل ضرورة إنسانية للمرأة كي تتحرر وتكسب استقلاليتها المادية والمعنويّة وتسهم في النهوض بالمجتمع عامّة بل مجرّد مهمّة ثانويّة لمساعدة العائلة على الإنفاق، هما من العوامل التي تقلّص تلك الحظوظ.
وما يزال النساء العاملات يشتغلن في القطاعات "النسائية" تقليديا وكذلك في القطاعات الأكثر هشاشة (نسيج، فلاحة، معينات منزليات...)، وأيّ كان شغلهن فإنهن يحتللن على العموم الوظائف الدنيا ولا يشغلن الخطط الوظيفية الهامة المتعلقة بالتسيير إلا بنسب محدودة حتى وإن توفرت فيهن الكفاءة. ولا تتخذ الدولة أية إجراءات لفائدة النساء (تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي) حتى يرتقين إلى مراكز القرار ويتم تخطِّي العقلية الذكورية التي تحقِّر قدراتهن.
كما يشمل التمييز مجال الأجور فالنساء في القطاع الخاص المتزايد حجمه باستمرار يتلقين أدنى الأجور. وحسب أرقام البنك الدولي فإن معدّل الأجر العام للنساء يقل عن معدّل الأجر العام للرجال بنسبة 14% وتصل هذه النسبة إلى %18 في القطاع الخاص. وتؤكد بعض الدراسات أن التمييز بين الجنسين في الأجر لا يتّجه نحو التقلّص بل هو يتفاقم. فالفارق التمييزي في الأجر لفائدة الرجال ارتفع من 11.2 % سنة 1980 إلى 15.3 % سنة 1999 (النساء والتشغيل ـ الكريديف 2002).
ولا تتخذ الدولة أية إجراءات لتحسين الأجور وظروف العمل في المهن التي تشغل غالبها النساء كالفلاحة والنسيج والصحة والتعليم والتنظيف والنزل والإدارات وغيرها، بل إن الدولة والأعراف على حد السواء يستغلون الوضع الدوني للنساء لتكثيف استغلالهن خصوصا في هذا الظرف الذي تتعرض فيه حقوق العمال إلى الانتهاك بعنوان "مرونة التشغيل".
ويمثل النساء العاملات الضحية الأساسية للبطالة والطرد التعسفي خصوصا في أوقات الأزمات. وفي هذا الإطار تفيد الإحصائيات حول فترة الثمانينات مثلا التي شهدت أزمة اقتصادية خانقة، أن نسبة البطالة في صفوف النساء تضاعفت بينما ظلّت على حالها تقريبا بالنسبة إلى الرجال: (من 11 % سنة 1984 إلى 21 % سنة 1989 بالنسبة إلى النساء ومن 13.7 % إلى 13.9% بالنسبة إلى الرجال). أما اليوم، فإن كانت النسبة العامة للبطالة حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2004 تبلغ 13.9% فإن نصيب النساء منها 16.7% مقابل 12.9% للرجال.
وتحاول السلطة في هذه الأيام الاعتداء من جديد على حق النساء في الشغل بوضع القانون الخاص بعمل النساء نصف الوقت موضع التنفيذ. ومن البديهي أن في هذا القانون تشجيعا على عودة النساء إلى المنزل كما أن فيه ضربا لحظوظ "المنتفعات" به في الترقية وفي احتلال خطط وظيفية.
وما يزال الحَمْلُ، خاصة في القطاع الخاص، سببا من أسباب الطرد والزواج والإنجاب سببا من أسباب عدم القبول في الشغل. ويعاني النساء العاملات إرهاقا متواصلا. فإلى جانب الشغل خارج المنزل فإنهن يتحمّلن أعباء العمل المنزلي وتربية الأطفال ومتابعة دارستهم والعناية بالمسنين من الوالدين مما يجعل يوم عمل المرأة يمتد في معظم الحالات من ساعة مبكرة من النهار إلى ساعة متأخرة من الليل (ما بين 16 و18 ساعة عمل يوميا). ولا تنتهج الدولة سياسة أسرية تشجع على تحمّل الزوجين أعباء شؤون العائلة وتخفيف العبء عن المرأة. وهو ما يفسّر ضعف نسبة النساء المتزوجات العاملات (18 %).
ولا تحظى المرأة الحامل بالعناية اللازمة من قبل الدولة. فالإنجاب لا ينظر إليه كوظيفة اجتماعية تحتم على المجتمع والدولة تحمل تابعاتها (نفقات الحمل والوضع وما بعد الوضع، إلخ.) بل ينظر إليه على أنه مسؤولية المرأة في المقام الأول وعائلتها في المقام الثاني. وليس خافيا ما وصلت إليه مصاريف الحمل والولادة في تونس من ارتفاع مهول يرهق كاهل المرأة والأسرة خصوصا وقد تخلت الدولة تدريجيا عن دورها الاجتماعي وفتحت باب الاستثمار والربح في قطاع الصحة لأصحاب رأس المال. وينجرّ عن عدم تمتع المرأة الحامل بعطلة ما قبل الوضع مضاعفة متاعبها. كما أن قصر مدة عطلة ما بعد الوضع في القطاع الخاص (شهر واحد) يسبب لها إرهاقا كبيرا وكثيرا ما تضطر المرأة إلى الانقطاع عن الشغل للعناية بمولودها. ولا تحترم المؤسسات الخاصة قانون الشغل في ما يتعلق بتوفير المحاضن ورياض الأطفال. يضاف إلى ذلك انتشار المحاضن ورياض الأطفال الخاصة على حساب المحاضن ورياض الأطفال البلدية. وهو ما يرهق كاهل الأسرة بمصاريف ليست قادرة عليها، وهو سبب آخر من أسباب انقطاع النساء العاملات عن العمل.
توظيف سياسي لتلميع صورة النظام
أمّا في المجال السياسي فإن حضور المرأة ضعيف بل إنه شكلي كلما تعلق الأمر بالمؤسسات والهيئات التمثلية والتنفيذية. فنسبة النساء في البرلمان لا تتجاوز 22.8% وفي المجالس البلدية 23%. وتوجد في الحكومة وزيرتان وكاتبة دولة واحدة. كما توجد امرأة واحدة في خطّة وال. ولا تتجاوز نسبة القاضيات 22.5% من مجموع القضاة (مقابل 50% في المغرب). أما الحزب الحاكم فرغم كثرة كلامه عن المرأة وعلى تحريرها فإن نسبة النساء لا تتجاوز 20.7% من عدد منخرطيه، كما أن نسبة رؤساء الشعب من النساء لا تتعدى 2.6%. ولا توجد أي امرأة على رأس لجنة تنسيق. وفي الديوان السياسي وهو أعلى هيئة لهذا الحزب توجد امرأة واحدة على 8 أعضاء. وليس حظ النساء في المنظمات الوطنية القريبة من السلطة أفضل من حظهن في الحزب الحاكم. ففي منظمة الأعراف توجد امرأة واحدة في قيادتها وفي منظمة الفلاحين لا توجد أية امرأة في مكتبها التنفيذي وهو الحال أيضا في الاتحاد العام التونسي للشغل.
إن حضور النساء هذا في الحياة العامة، على محدوديته، يستغله نظام الحكم لتأكيد حرصه المزعوم على النهوض بأوضاع المرأة التونسية والرفع من مستوى تشريكها في إدارة شؤون البلاد. ولابد من ملاحظة أن تطور نسبة حضور النساء في المؤسسات التمثيلية ليس له معنى في واقع الأمور. فبالإضافة إلى أن النائبات في هذه المؤسسات لسن منتخبات انتخابا حرا وديمقراطيا بل هن معيّنات من قبل بن علي رئيس الحزب الحاكم في إطار انتخابات صورية، لا يقمن بأي دور في بلورة وصياغة السياسة العامة للبلاد بما فيها الجوانب المتعلقة بالمرأة. فهنّ يصفقن لما يقرره بن علي ويدافعن عنه حتى ولو كان ضد مصالح النساء. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن ذلك التطور لا يعكس تطويرا لمشاركة عموم النساء في الحياة العامة، فالنساء مازلن يقاسمن أشقاءهن الرجال الحرمان من الحقوق الأساسية ومنها حرية التعبير والتنظم والاجتماع والانتخاب والترشح وبالتالي فهن مقصيات من الحياة العامة كالرجال وأكثر منهم.
إن شكلية النسب التي يقدمها النظام تبرز بشكل خاص من خلال المعاملة الوحشية التي يخص بها النساء اللواتي يعبرن عن استقلاليتهن ويرفضن الانصياع لإرادته أو يعارضنه. وقد رأينا خلال السنوات الأخيرة أصنافا من اضطهاد النساء التونسيات، حقوقيات ومدافعات عن حقوق النساء ومناضلات سياسيات ونقابيات ومبدعات وغيرهن. فقد تعددت الاعتداءات الجسدية عليهنّ وتفاقمت حملات التشهير التي "تعهّرهنّ" في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية وتكاثرت الإجراءات التي تحرمهنّ من الشغل والسفر. وتعاني الجمعيات النسائية المستقلة من الإقصاء والحصار الإعلامي والضغوط المادية والمراقبة الأمنية المستمرة والمنع من تنظيم الأنشطة العمومية.
كل هذا يؤكد أن نظام الحكم يسعى بكل الوسائل إلى احتكار قضية المرأة وتوظيفها لتلميع صورته والظهور بمظهر النظام"ّالتحديثي الديمقراطي". وبالإضافة إلى ما في هذا التوظيف من تعطيل لنهوض النساء، فإنه يمثل خطرا على قضيّة تحررهن في الذهنية العامة للناس إذ يبدوهذا التحرر وكأنه "منة" من منن الاستبداد وهو ما قد يخلق ردّ فعل سلبيا داخل المجتمع خصوصا إذا وقع الخلط بين مظاهر الانحلال الأخلاقي البرجوازي الرأسمالي الناتج عن تشيئة المرأة وتبضيعها وبين التحرر الحقيقي الذي هو ثمرة من ثمرات الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والثقافي وهو أيضا حقوق وكرامة إنسانية ووعي نابع عن نقاش وتربية داخل العائلة والمجتمع.
أمّيّة متفشّية
وما يزال النساء الضحية الأولى للأمية في تونس، إذ تبلغ، حسب آخر إحصاء(2004) نسبة الأمية 31% في صفوف الإناث مقابل 14.8% في صفوف الذكور ونسبة وطنية بـ22.9% وترتفع نسبة الأمية في الوسط النسائي غير البلدي إلى 46.4 % مقابل 22.6 في الوسط النسائي البلدي وتبلغ نسبة الأمية النسائية في المناطق "المتروكة" 45.1% في الوسط الغربي و42.3% في الشمال الغربي. وإن كنا لا ننكر تجاوز نسبة الطالبات نسبة الطلبة في التعليم العالي، وهو أمر تحقق أيضا في عدد من الأقطار العربية الأخرى وليس إنجازا تونسيا، فإن البطالة في صفوف النساء اللواتي يتمتعن بمستوى جامعي ارتفعت بشكل ملحوظ لتبلغ15.1% سنة 2004.
ومن الملاحظ أن مظاهر العنف اللفظي والجسدي الذي يستهدف الفتيات والنساء قد استشرى في بلادنا سواء كان ذلك في العائلة أو في أماكن الدراسة والعمل أو في الطريق العام. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى وضعية الطالبات اللائي أصبح معظمهن محروما من الحق في السكن الجامعي ومضطرا إلى البحث عن سكن في أماكن غير آمنة وهو ما عرّضهن ويعرّضهن لمخاطر عديدة.
كما تفاقمت بشكل مفزع ظاهرة البغاء والاتجار بالنساء في مناخ تفشت فيه البطالة والفقر وانتشرت القيم الاستهلاكية وتلاشت المرجعيات القيميّة الإنسانية.
وما تزال وسائل الإعلام والكتب المدرسية والمنتوجات الثقافية تعيد إنتاج صورة المرأة الدونية. ولا تتخذ الدولة أية إجراءات جدية لتغيير هذه الصورة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire