Nombre total de pages vues

mardi 15 mars 2011

الهوية وحقوق النساء

الهوية وحقوق النساء

ولا تعارض بين الهوية والانتصار لحقوق النساء وتحررهن إلا في عقول الذين يعتقدون أن الهوية ظاهرة ثابتة جامدة بل يعتقدون أن اضطهاد النساء وحرمانهن من حقوقهن والاعتراض على تحررهن هو جزء لا يتجزأ من "هوية المسلم" وهذا موقف خاطئ، يعبر عن هوية القوى التي تتمعّش من تخلف المجتمعات العربية والإسلامية وتخاف من تقدمها خوفا على مصالحها. وليس من الغريب أن تكون نفس القوى التي تدافع عن الاستبداد السياسي والاستغلال الاجتماعي والعنف الطبقي وتتواطؤ مع الرأسمالية والامبريالية العالمية هي نفسها التي تناهض تحرر النساء.

إن هوية أي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم تتغيّر وتتحول وتواكب تطور هذا الشعب أو الأمة وتتغذى بإبداعاتهما في كل مرحلة من المراحل التاريخية. وكل شعب أو أمة يتوقفان عن تطوير هويتهما ويغرقان في الانغلاق ويرفضان إخضاع تراثهما لمحك النقد الموضوعي والعلمي، يصابان بالوهن ويصبحان لقمة سائغة للقوى الاستعمارية والهَيمنيّة. لذلك فإن التمسك بالهوية لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لنكران حريّة الإنسان وحقوقه أو للتشبّث بمواقف منافية للمساواة وحقوق المرأة أو رفض التفاعل مع مكاسب الانسانية التقدمية بدعوى أنها "غريبة عن هويّتنا". إنه لا يوجد ما يمنع التونسية والتونسي من أن يكونا متجذرين في هويتهما الوطنية -لأنّ من لا ماضي له لا مستقبل له-، وفي نفس الوقت "مواطني العالم" (
Citoyens du Monde) منخرطين في القيم الإنسانية التقدمية مسهمين في إثرائها وتطويرها في صراع مع قوى الطغيان والبربرية الرأسمالية.

حزب العمال يتبنى مطالب الحركة النسائية

وعلى كل حال فنحن في حزب العمال نتبنى بشكل لا لبس فيه لائحة المطالب المباشرة التي رفعها عدد من المنظمات بمناسبة "خمسينية مجلة الأحوال الشخصية" (جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية التونسيات للبحث حول التنمية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فرع منظمة العفو الدولية، اللجنة الوطنية للمرأة العاملة التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، مجموعة 95 المغاربية من أجل المساواة) وهي مطالب تشمل تحسين أوضاع المرأة داخل الأسرة والمجتمع (الشغل، الصحة، التعليم، الحياة العامة، الثقافة).

إن ما نريد تأكيده، ونحن نتبنى تلك المطالب، المدرجة في الحقيقة في برنامج حزبنا، هو أن مسألة المساواة بين الجنسين ليست مسألة قانونية فحسب. فالمساواة القانونية لا تعني بالضرورة المساواة في الواقع، وهي على أهميتها، تبقى محدودة وغير متماسكة إذا لم تتوفر لها كل الشروط المادية والاجتماعية والثقافية للنزول بها من مستوى التشريع إلى مستوى الواقع، والمقصود بهذه الشروط هو طبعا العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.

إننا نعمل من أجل أن يصبح نساء تونس، متحررات بالكامل، يتمتعن بالمساواة التامة والفعلية في الحقوق مع الرجال داخل الأسرة والمجتمع، نساء متعلمات، مشاركات في إنتاج الثروة الاجتماعيّة وفي إدارة شؤون البلاد متمتّعات بحقوقهنّ، متجذرات في هويتهن الوطنية، منفتحات على الإرث الإنساني التقدمي، مُسْهمات في تطويره وإثرائه وهو ما من شأنه أن يرسي دعائم أسرة جديدة، ديمقراطية، متماسكة ومتوازنة، ومجتمع جديد ديمقراطي، حديث، متقدم ومتضامن.

حدّ أدنى غير قابل للتصرف

هذه إجمالا نظرتنا إلى مسألة المساواة بين الجنسين. وبالطبع توجد بيننا خلافات حول هذه المسألة وهو أمر طبيعي لأننا لا ننطلق، كأحزاب وجمعيات وأفراد، من نفس المنظومة الفكرية ولا نحمل نفس الرؤية لمختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. ولكننا مدعوون مع ذلك، إلى إيجاد حد أدنى من التفاهم حول هذه المسألة يمكـّننا من مواجهة نظام الاستبداد مع بعضنا البعض وتَمَثُّل طموحات جماهير النساء في بلادنا وترجمتها في برامج ومطالب واضحة حتى تثق بما نطرحها عليها وتسهم في تحقيقه مساهمة نشطة وفعالة.

إننا في حزب العمال نعتبر أن مختلف فصائل المعارضة المدنية والسياسية يمكنها، بل هي مدعوة إلى الاتفاق على ما تحقق للنساء التونسيات من مكتسبات كحد أدنى غير قابل للتصرف، فلا رجوع فيه ولا نزول تحته، وما عدا ذلك من قضايا يبقى للنقاش. وهذه المكتسبات معلومة منّا جميعا ومنها مثلا حرية المرأة في اختيار شريك حياتها ومنع تعدد الزوجات وحق المرأة في طلب الطلاق وهو كذلك حق البنت في التعليم والاختلاط، والحق في الشغل مع التساوي قانونيا في الانتداب والأجور وعدم التمييز بسبب الحمل، وحماية المرأة الحامل وحق النساء في تقلد كافة الوظائف والخطط دون استثناء وأهليتهن التامة للأعمال المدنية والقضائية وحرية التنقل والسفر. وإن أمكن لنا الاتفاق على محاور أخرى فذلك أمر مهم للغاية من شأنه أن يدعم موقفنا. نحن ندرك أن لكل منا مرجعيته الفكرية، فنحن مثلا اشتراكيون وغيرنا إسلامي أو قومي أو ليبرالي، ولكن هذا لا يهم كثيرا في مجال عملنا إذ أن ما يهمنا في المقام الأول في نشاطنا السياسي المشترك هو الاتفاق على الموقف أو المهمّة العمليّة، أما تبريراتها الفكرية فهي شأن من شؤون كل حزب أو جمعية أو شخص والاختلاف حولها يناقش في مجال آخر، فكري وثقافي.

أما القضايا التي نختلف حولها مثل قضية المساواة في الإرث فنحن لا نرى فيها، إذا اتفقنا على المكتسبات كحد أدنى، سببا للقطيعة ونفيا للعمل المشترك. فهي تبقى للنقاش عسانا التوفّق فيها إلى موقف موحّد لصالح النهوض بوضع النساء في بلادنا على طريق المساواة التامة والفعلية. وستكون لنا حوارات أخرى حول ما تبقى من قضايا ستمكننا بكل تأكيد من مزيد بلورة بعض النقاط التي وقع التعرّض لها هنا بصورة سريعة مثل قضية علاقة الدين بالدولة، وقضية حرية المعتقد والحرمة الجسدية، وغيرها من القضايا.

وفي الختام علينا أن ندرك ما لهذه الخطوة المطروح علينا قطعها من أهمية فائقة في مسار الحركة السياسية في بلادنا، فهي ستوحد الجهود ضد الدكتاتورية وتنزع منها ورقة ظلت توظفها إلى حد الآن لتتظاهر بالحداثة والديمقراطية وتخيف قطاعات واسعة من المجتمع وتوهمها بأنه لا خيار لها سوى الاصطفاف وراءها.

فلنتَحمِّل مسؤوليتنا التاريخية ولنفتح أفقا آخر لبلادنا.


(1) بعض الأفكار الشائعة حول تحرّر المرأة:
من الأفكار الشائعة في صفوف الرجال في تونس أنّ النساء حصلن على "حرّيتهن وزيادة" وأصبحن في وضع أفضل من وضع الرجال بل إنهن أصبحن "يستعمرن الرجال" "ويضطهدنهم" وأن الرجل هو الذي صار في حاجة إلى "جمعية للدفاع عن حقوقه". ومن البديهي أن هذه الأفكار لا أساس لها من الصحّة. فالنساء التونسيات ما زلن بعيدات عن تحقيق المساواة التامّة بينهن وبين الرجال سواء على الصعيد القانوني أو على صعيد الواقع والممارسة. فهنّ عرضة للميز والاضطهاد كما بيّنتُ ذلك في مداخلتي في الندوة التي عقدتها "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" في مطلع شهر ديسمبر الماضي. ولكن ما الذي يشوش الوضع ويخلق الانطباع لدى فئات من الرجال من مختلف الطبقات الاجتماعية بأن ما حصلت عليه النساء من مكتسبات جزئية يمثل مغالاة في الحريّة غير مقبولة ومن ثمّة يشتدّ العداء لهنّ من تلك الفئات التي لا تخفي رغبتها في أن يحلّ في يوم ما نظام "يكسر شوكتهن" ويعيدهنّ إلى "جحورهن"؟

أعتقد أن أحد أهم الأسباب التي تقف وراء شيوع هذه الأفكار، هو هشاشة المكتسبات التي حققها النساء. هذه المكتسبات ليست مسنودة بأرضية اقتصاديّة واجتماعية وثقافية وسياسية صلبة ترسّخها وتطوّرها في اتجاه تحقيق تحرر النساء التونسيات تحريرا كاملا على أساس من المساواة قانونا وممارسة. فلنأخذ تشغيل النساء مثلا. إن خروج هؤلاء إلى الشغل لم يندرج ولا يندرج في إطار إستراتجية تهدف إلى تحرّرهن. فقد وقع إخراجهن إلى سوق الشغل كقوّة عمل قصد استغلالهن، وهو ما جعل وضعهن في الشغل هشّا، والشاهد على ذلك ما قدمته في مداخلتي المذكورة من نسب وأرقام حول شغل النساء تؤكد ضعف نسبة الناشطات منهن وهشاشة الأعمال والوظائف التي يقمن بها وضآلة وجودهن في مواقع التسيير وضعف أجورهن مقارنة بأجور الرجال وتعرّضهن للطرد في أوقات الأزمات وتفشي البطالة في صفوفهن وتشريع عمل النساء نصف وقت، الخ. وقد سعت البرجوازية التونسية التابعة إلى الحفاظ على تلك النظرة التقليدية المتخلّفة لشغل المرأة باعتباره أمرا ثانويا، غير ضروري لها ولنهضة المجتمع وفي أفضل الحالات "مكمّلا" لشغل الرجل. ومن هذا المنطلق، ظلت العقلية العامة تنظر إلى المرأة على أنها تنافس الرجل في ميدان الشغل وتحمّلها مسؤولية بطالته خاصّة في مثل هذه الظروف التي تتفاقم فيها البطالة بشكل غير مسبوق وتحكم على مئات الآلاف من الأشخاص بالفقر والإملاق، عوض تحميلها للنظام الاقتصادي الاجتماعي البرجوازي المتخلّف، الذي يولّد بطالة الرجال والنساء على حدّ السواء.

وإلى ذلك فإن شغل النساء ليس مسنودا بخدمات اجتماعية تحرّرهن من عبودية البيت، ومن توزيع الأدوار التقليدي، النساء للشؤون المنزلية وتربية الأطفال والرجال لـ"خارج البيت" أي للشغل والشأن العام. وأقصد بالخدمات الاجتماعية المحاضن ورياض الأطفال والمطاعم في أماكن العمل (الكنتينات) والغسّالات العمومية وغير ذلك من الخدمات غير المتوفرة للنساء العاملات والأجيرات وحتى إذا توفـّرت فبأسعار لا يقدرن عليها (المحاضن ورياض الأطفال). كما أن الدولة لا تتخذ من الإجراءات ما يشجّع الأزواج أو يحملهم على تحمّل مسؤولية البيت والعائلة مع زوجاتهم. وأقصد هنا مسألة التنصيص دستورا وقانونا على المسؤولية المشتركة للزوجين في تحمل أعباء المنزل وتربية الأطفال وتمكين الأزواج من عطلة أبويّة للعناية بالأطفال إضافة إلى تمكين النساء الحاملات من عطلة ما قبل الولادة في القطاعين الخاص والعام. ومن البديهي أن غياب مثل تلك الخدمات الاجتماعية والإجراءات التشجيعية من شأنه أن يؤدي إلى ترك النساء الشغل والعودة إلى البيت للعناية بأزواجهن وأطفالهن وبأفراد العائلة الآخرين. وهو ما يؤكد النسبة الضعيفة للنساء المتزوجات من بين النساء العاملات والناشطات عموما. كل هذه العوامل تجعل خروج النساء إلى الشغل هشّا وقابلا للتراجع بهذه الدرجة أو تلك لأنه من الصعب جدّا العودة الآن إلى الوراء لإرجاع كل أو معظم النساء العاملات إلى بيوتهنّ لما سيحدثه ذلك من خلل اقتصادي واجتماعي يصعب على أي نظام، حتى لو كان إسلاميا، تحمّله. وهذا الوضع الهشّ لشغل النساء يخدم بطبيعة الحال مصالح رأس المال المحلي والأجنبي المسيطر في بلادنا لأنه يُفسِح له المجال أولا لاستغلال اليد العاملة النسائية استغلالا فاحشا وثانيا للتخلص منهن وطردهن كلما عنّ له ذلك وخاصة في أوقات الأزمات. كما أن هذا الوضع يخدم نظام بن علي الذي لا يرى نفسه مجبرا على توفير الشغل للنساء باعتباره حقا من حقوقهنّ الذي يجب على الدولة الوفاء به.

أما من الجانب السياسي فإن الخطر على حريّة المرأة وحقوقها متأت، ليس من التيارات الرجعيّة التي تدعو إلى التراجع في مكتسباتها فحسب، بل من نظام بن علي ذاته الذي يُضعف تلك المكتسبات ويجعلها قابلة للطعن والمراجعة. فهذا النظام الاستبدادي يستعمل قضيّة المرأة لتلميع صورته، خصوصا في الخارج، والظهور بمظهر النظام "العصري الديمقراطي" الواقف في وجه التيارات الأصولية والذي يستحقّ بالتالي "المساندة" وغضّ الطرف عما يرتكبه من انتهاك منهجي للحريّات والمبادئ الديمقراطيّة. ولكي يتسنى لبن علي توظيف قضيّة المرأة، فهو يسعى إلى احتكارها ويعتبر نفسه الوحيد المخوّل له الخوض فيها وما على الآخرين، داخل الحزب الحاكم أو خارجه، إلا أن يصفقوا له ويهللوا بـ"القرارات الجريئة والرائدة" التي يتخذها، حتى لو كانت شكلية وجزئية وذات طابع ديماغوجي. ومن هذا الموقع فهو لا يتوانى في قمع كل الأصوات الحرّة التي تنتقد أوضاع النساء في تونس وتطالب بإقرار المساواة التامة والفعلية بين الجنسين. كما أنه يمنع الجمعيات النسائية واللجان النسائية التابعة لهيئات مهنية ونقابية من النشاط الحر في صفوف النساء للارتقاء بوعيهن وتنظيمهن وتعبئتهن من أجل حقوقهنّ، و يسدّ أمامها أبواب وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة التي لا تتحدّث إلاّ عمّا يقوله ويقرره هو. إنّ هذا الأسلوب في التعاطي مع قضيّة النساء لا يسهم في تطوير وعي المجتمع بحقوقهن وحريتهن بل يغذّي بسهولة ردود الفعل الذكرية، في صفوف فئات من الرجال بما في ذلك في الأوساط العمالية والشعبية، بل إن مثل ردود الأفعال هذه المعادية ظهرت وتظهر حتى في صفوف النساء المتأثرات بالأفكار الرجعيّة والواقعات تحت هيمنة التقاليد والعادات البالية.. إن أي خطوة جدّية تتخذ في نطاق السعي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين ينبغي أن تكون محل نقاش عام وحر داخل المجتمع بمختلف مؤسساته وهيئاته وتنظيماته الحزبية والنقابية والنسائية والشبابية والثقافية بهدف شرح أبعاده وإقناع الناس به وخلق رأي عام حوله وترسيخه في الأذهان وتحويله شيئا فشيئا إلى جزء من الوعي والثقافة الاجتماعيين، ومن المنظومة التشريعية للبلاد بل إلى جزء من "الطبيعة الإنسانية" للتونسيات والتونسيين.

أما أن يتخذ هذا الإجراء أو ذاك بشكل فوقي، بيروقراطي لأغراض دعائية فإنه لا ينـْفـُذ إلى وعي الناس وعقولهم بل يبقى سطحياًّ، قابلا للتراجع خصوصا حين يكون المناخ الإيديولوجي والاجتماعي العام غير ملائم. ولكن لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن الإجراءات التي يتخذها نظام بن علي تتجاوز وعي التونسيين أوهم غير مستعدّين لتقبلها. طبعا لا. نحن نعتقد جازم الاعتقاد أن غالبية الشعب التونسي لا تعادي المساواة بين الجنسين وهي مستعدّة لتقبلها واستيعابها والاقتناع بها. لكن المشكل يتمثل في النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي التابع والمتخلّف الذي يشوّه قضيّة تحرير النساء بإضفائه على هذا التحرير صبغة "سلعية/تجارية" أي تحرير المرأة كقوة عمل لتستغلها وتحرير جسمها كبضاعة لتباع وتشترى في "سوق اللّذة"، كما يتمثّل في طبيعة النظام الاستبدادية التي تجعله يقمع حريّة الرأي والتعبير ويوظّف قضيّة المرأة لتلميع صورته وفي طبيعته الاجتماعية المتخلفة التي تثقل كاهل النساء بالعمل المنزلي وتربية الأطفال ولا توفر لهن الخدمات الضرورية.

وأخيرا وفي ما يتعلّق بالجانب الإيديولوجي والثقافي فإن الأفكار التي ينشرها النظام القائم عبر البرامج الدراسية ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والكتب والمنتجات الفنيّّة والثقافية لا تخدم في معظمها قضيّة تحرر النساء، بل تشوّهها وتعاديها. فصورة المرأة الضعيفة، الماكرة، الشيطانة، المغوية، بليدة الذهن، والأم الراعية للبيت والأطفال وفقا للتوزيع التقليدي للأدوار داخل العائلة، هي التي ما تزال مهيمنة في الكتب المدرسية والمنتجات الثقافية والغناء ووسائل الإعلام. ولا يتوانى نظام بن علي في توظيف الدين لتبرير رفضه بعض المطالب التي يرفعها النساء مثل الإدارة المشتركة للعائلة التي شرّعها مثلا النظام المغربي في آخر تحوير لـ"المدونة" وهو نظام يعتبر فيه الملك نفسه "أمير المؤمنين"، والمساواة في الإرث التي نادى بها مصلحون من أمثال الطاهر الحداد (1899-1935)، خرّيج الزيتونة والذي لا يمكن أن يتّهم بـ"الإلحاد" ومعاداة الإسلام. كما يستعمل نظام بن علي المساجد والجوامع لإطلاق حملات تشهير وتشويه ضد النساء الديمقراطيات والتقدميات المطالبات بالمساواة، وتقديمهن في صورة النساء "المعاديات للإسلام" لطمس مشروعية مطالبهن.

ويلقى هذا الخطاب الرجعي المعادي لحرية النساء وحقوقهن سندا له في المادة الدينية والثقافية والسياسية التي تبثها الفضائيات العربية الممولة من أثرياء سعوديين وخليجيين حريصين على توظيف الدين لإبقاء المجتمعات العربية متخلفة لاستدامة سيطرتهم عليها، علما وأن أصحاب هذه الفضائيات التي تبث مثل تلك المادة الرجعية المتخلفة، هم الذين يبيعون أوطانهم للامبريالية الأمريكية لتنهب خيراتها وثرواتها النفطية ويهدرون كرامة شعوبهم ويمسخون ذاتيتها وهويتها. كما أنهم هم الذين يمولون فضائيات تشجع الميوعة والابتذال وتمجّد صورة المرأة البضاعة.

وخلاصة القول إن نظام بن علي يمثل خطرا حقيقيا على مكتسبات النساء في تونس وهو ليس مؤهلا لصيانتها فما بالك بدعمها وتطويرها وتحرير النساء التونسيات من الميز والاضطهاد. فهو بسياسته الاقتصادية والاجتماعية وباستبداده السياسي وبخطابه الثقافي المتخلف وتشريعاته التمييزية يضعفها ويخلق الأرضية المناسبة لوضعها محل سؤال من قبل التيارات السلفية الموغلة في الرجعية التي تعتقد أن الرجوع بالنساء إلى الوراء هو الذي سيخلصهن اليوم من شرور النظام الرأسمالي لذلك لا يمكن البتة للنساء ولأنصار تحررهن من الرجال أن يناموا ملء جفونهم ويذهب في اعتقادهم أن ما حققه النساء من مكتسبات لا رجعة فيه. إن إلغاء تعدد الزوجات، وإقرار حق المرأة في الطلاق والولاية المشروطة على الأطفال والتبني والاختلاط في المدرسة وأماكن العمل والفضاءات العمومية، وتولي النساء خطة القضاء والمشاركة في الحياة العامة، إن لم تكن مهددة جميعها بمراجعة كلية، فعلى الأقل جزئيا. وهو ما يدعو إلى ضرورة توسيع النضال وتجذيره من أجل المساواة الفعلية والتامة التي تقتضي نضالا لا هوادة فيه ضد نظام الاستبداد.

(2) المرأة، الأخلاق، الحبّ، الجنس، العائلة:
من الأفكار الشائعة في المجتمع أيضا، ليس في صفوف الذكور فحسب، بل كذلك في صفوف جانب من الوسط النسائي، هو أن النساء سبب الأزمة الأخلاقية التي تنخر مجتمعنا. وهذه الفكرة خاطئة بالطبع، لا لأنها تحمّل النساء مسؤولية التدهور الأخلاقي في المجتمع فحسب بل لأنها أيضا تختزل هذا التدهور في بعض المظاهر السلوكية المتعلقة بالجانب الجنسي في العلاقات بين النساء والرجال (البغاء...) أو ما يعبّر عنه بعاميتنا بكلمة "لِفـْسَادْ".

إن التدهور الأخلاقي والقيمي في مجتمعنا أمر موضوعي لا يمكن أن ينكره أحد، بل إن محاولة نكرانه أو طمسه كما يفعل نظام الحكم للتنصّل من المسؤولية أو كما يفعل بعض "التقدميين" خوفا من السقوط في "الأخلاقوية" أو من صبّ الماء كما يقولون في طاحونة التيارات السلفية التي تتخذ من تدهور الأخلاق والقيم ذريعة للدعوة إلى الرجوع بالمجتمع إلى الوراء، لن يجدي نفعا، باعتبار أن ذلك لن يوقف التدهور الأخلاقي ولا توظيف التيارات السلفية والأصولية له بل إنه لن يخدم في نهاية الأمر إلا هذه التيارات لما يحدثه التدهور الأخلاقي من فزع داخل الطبقات والفئات الشعبية وهي محقة في ذلك.

إن الموقف السليم يقضي بضرورة الإقرار بوجود أزمة أخلاقية وقيمية. ولكن هذا الإقرار لا يكفي إذ لا بد من تحديد مظاهر هذه الأزمة والوقوف عند أسبابها الحقيقية والبحث عن كيفية التصدي لها ومعالجتها معالجة متجهة نحو المستقبل ونحو الأفضل. وهنا لا بد من ملاحظة أن الأزمة الأخلاقية والقيمية في مجتمعنا هي أوسع وأشمل من أن تختزل في بعض المظاهر المتعلقة بالأخلاق الجنسية للنساء والرجال وما اعتراها من تسيب وتبضيع. كما أنها أعمق من أن يحمّل النساء مسؤوليتها أو أن يزعم أن حلها يكمن بكل بساطة في تشديد القمع على النساء والرجوع بهنّ إلى الوراء.

لقد تعرّض حزب العمال في إحدى وثائقه الأساسية المنشورة في السنوات الأخيرة بعنوان "من أجل بديل ديمقراطي و شعبي" إلى الأزمة الأخلاقية والقيمية التي تنخر مجتمعنا وأسبابها. فأشار إلى تفشي القيم الفردانية على حساب قيم التضامن والتآزر. وأرجع ذلك إلى المناخ الاقتصادي والاجتماعي السائد، مناخ الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، التي جعلت من اللهث وراء الربح والمصلحة الخاصة الغاية القصوى في الحياة. وهو ما أدى إلى تحوّلٍ هام في العلاقات بين الناس إذ أصبح المال هو المعيار الذي يَحْكُمُ العلاقات ويُعَيَّرُ به الأفراد. وفي علاقة بذلك أصبحت مواصفات الشخص "الناجح في حياته" تكمن في مدى قدرته على التحيّل والنهب والسرقة والإرشاء والإرتشاء لتكديس المال ولم يعد العمل والعلم والكفاءة والتفاني في خدمة الغير والمجتمع المعيار القيمي الذي يستخدم للحكم على الأشخاص، بل أصبح يُنظر في العديد من الأوساط إلى الشخص الذي يحمل هذه القيم ويحافظ عليها على أنه "ساذج" وليس "ابن عصره" أي عصر الرأسمالية المتوحشة التي يناسبها أخلاقيا "إنسان متوحش" بمساحيق عصرانية وحداثية وهو ما يتجسد أحسن تجسيد في بورجوازي اليوم.

وأشارت الوثيقة من جهة أخرى إلى انتشار الغش والكذب والنفاق والوشاية وإلى تفشي البذاءة وتلوث لغة الشبان والكهول وحتى الصبيان أحيانا في المنزل ومركز العمل والشارع الذي غاب فيه الحياء. وتراجع السلوك المدني في العلاقة بين الناس ليغلب عليها غياب الاحترام والعنف. وامتدت الأزمة الأخلاقية إلى العائلة سواء في علاقة الزوجين ببعضهما بعضا أو في علاقة الأبناء والبنات بالوالدين إذ أصبح التوتر والتمرد والاستهزاء التي تغذيها الثقافة الرسمية السائدة (مسلسلات، منوعات، كليبات...) هي التي تحكم تلك العلاقات ولا يجد الآباء من رد على هذا السلوك سوى استعمال أساليب العنف والتسلط لـ"ردعهم". وعلى صعيد آخر تفشت أخلاق العبودية بما تعنيه من خنوع للحاكم وأصحاب الجاه ومذلة واستسلام وهي كلها نتاج لـ"ثقافة الرعية" التي ينتجها الاستبداد. ولكن كيف تنعكس هذه الأزمة على النساء وعلى علاقتهن بالرجال؟

إن تشيئة المرأة وتبضيعها هما إحدى أهم سمات الواقع الاجتماعي في تونس اليوم وتمثلان أفظع نتيجة لهذه التشيئة وهذا التبضيع ما يمكن تسميته بـ"سوق اللذة" التي ظهرت إلى جانب "الأسواق الأخرى" إذ أصبح جسد المرأة يباع ويشترى مما أدى إلى انتشار ظاهرة البغاء في كافة الأوساط. ومن نتائج ذلك أيضا التكالب على الجنس إذ أصبحت العلاقة بين المرأة والرجل يسيطر عليها الجانب الجنسي، بل إن العلاقات الجنسية ذاتها فقدت جانبا كبيرا من بعدها الروحي، النفسي العاطفي، الثقافي الإنساني ليسيطر عليها الجانب الغريزي، الحيواني. وبالطبع عززت هذا الاتجاه القنوات التلفزية البورنوغرافية التي تذلّ المرأة وتدمّر عقول الشباب وتخرّب نفسياتهم وتفقدهم الكثير من إنسانيتهم.

ولكن لا ينبغي الخلط في تناول هذه المسألة بين ما يندرج حقا في مجال التدهور الأخلاقي في العلاقة بين الجنسين وبين ما يندرج، خلافا لذلك، في مجال التطوّر الإيجابي، التقدمي للأخلاق الاجتماعية.

إن خروج النساء والفتيات إلى المدرسة والعمل واقتحامهن عديد الميادين واختلاطهن بالجنس الآخر، كل ذلك أدى إلى تحولات في شخصياتهن ونفسياتهن لا ينبغي النظر إليها كـ"علامات سلبية"، على غرار ما تروّج له التيارات السلفية والأصولية والرجعية عامة. فما اكتسبته المرأة مثلا من جرأة وقدرة على الدفاع عن ذاتها وحقوقها، ومن حرية في اختيار شريك حياتها أو الطلاق في حالة الفشل وربط علاقات عاطفية جديدة والجرأة على التعبير عن المشاعر والرغبات وعن الحق في علاقات عاطفية وجنسية متكافئة مع الشريك أو القرين والشعور بأن جسدها هو ملكها، ليس قابلا للبيع أو الشراء، أو أن لها كلمتها في إنجاب الأطفال بما في ذلك الحق في إيقاف الحمل لهذا السبب أو ذاك الذي يهمّ صحتها الجسدية أو النفسية أو غيرها من العوامل، وتمسكها بحقها في الشغل وفي كسب استقلاليتها المادية والمشاركة في إدارة شؤون العائلة وتقرير مصير الأطفال ورفض كافة مظاهر الإهانة من تعنيف ونيل من الكرامة وغير ذلك من الممارسات التمييزية، في كلمة تمسكها بالمساواة مع الرجل والكفاح من أجل ذلك، كل هذه المظاهر هي مظاهر تقدمية في حياتنا الاجتماعية، وهي وليدة التطور الاجتماعي الموضوعي، الذي لا تقدر على صدّه أية قوة. كما أنها تمثل تجاوزا للتقاليد والعادات الاجتماعية والثقافية البالية التي تعتبر المرأة أداة للمتعة والإنجاب بل متاعا من أمتعة الرجل وتـُعرّف المرأة الصالحة وفقا لمعايير الخنوع والخضوع والذل وانعدام الشخصية والتضحية بالحرية والحقوق من أجل الرجل صاحب كل الحقوق والامتيازات أي المرأة التابعة الذليلة. ولكن ينبغي الإقرار بأن تلك المظاهر الإيجابية والتقدمية هي بصدد التشوّه من جراء المناخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي السائد الآن في بلادنا والذي تستغله التيارات الرجعية للهجوم على مكاسب النساء وتعمّد الخلط بين هذه المكاسب وبين مظاهر الانحلال والفساد الأخلاقيين والإيهام بأن تلك المكاسب هي مصدر ذلك الانحلال والفساد، والحال أن مصدرها آخر، يكمن في النظام الرأسمالي الليبرالي المتوحّش الذي يحكم العلاقات الاجتماعية في بلادنا ويؤثر أيما تأثير في الأخلاق والسلوك. وهنا يكمن التهديد الجدي الذي تمثله الدكتاتورية النوفمبرية، التي "ترعى" هذه العلاقات، لمكاسب النساء فهي التي تدمرها وتيسّر وضعها محل مراجعة.

إن مواجهة التدهور الأخلاقي في المجتمع لا يمكن أن تتم إذن بتجريم المرأة، وعقابها وإرجاعها إلى البيت أو "تحجيبها"، ولكن بمقاومة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى التدهور الأخلاقي كما أدت إلى إذلال النساء وتبضيعهن والتي هي كامنة في النظام الرأسمالي وأمراضه غير القابلة للإصلاح أو العلاج. إنّ المجتمع التونسي في حاجة إلى ثورة لا إلى ردة في الأخلاق، والنساء في حاجة إلى الحرية لا إلى الاستعباد، والعائلة التونسية في حاجة إلى أن تسود داخلها المساواة والعلاقات الديمقراطية، لا إلى التسلط والقهر والإخضاع.

إن الأخلاق التي ينبغي لنا أن نناضل من أجل ترسيخها وإعلائها، في مجال العلاقة بين الجنسين هي تربية الفتاة التونسية على الحرية لا على العبودية، على الجرأة، لا على الخوف، على الاستقلالية، لا على التبعية، على المسؤولية، لا على القصور والاتكالية، على الحق، لا على المنّة والصدقة، على الكرامة لا على الذل. كما ينبغي لنا أن نربي الفتيان على احترام المرأة، لا على احتقارها، على عقلية المساواة، لا على الاستعلاء أو التمييز، وعلينا أن ندرك في نهاية الأمر أن الزواج الأخلاقي الوحيد هو الزواج القائم على حرية الاختيار خارج أي ضغوط مادية أو معنوية وأن العلاقات الجنسية الأخلاقية الوحيدة هي العلاقات القائمة على الحبّ، وأن العائلة الأخلاقية الوحيدة هي العائلة القائمة على المساواة التامة والفعلية وعلى الديمقراطية في العلاقة بين أفرادها.

هذه هي الأخلاق التي على كل تقدمي أن يدافع عنها وينشرها بين الأجيال الحالية، ويناضل من أجل أن تصبح هي السائدة في العلاقة بين الجنسين. ومن البديهي أن ذلك مرتبط أشد الارتباط بالنضال على كافة الواجهات الأخرى، ذلك أن الأخلاق الإنسانية الرفيعة، لا يمكن أن تنبت وتنمو وتسود إلا في المناخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يلائمها، فكما أن مناخ الرأسمالية الليبرالية التابعة والمتوحشة والاستبداد يلائم تشيئة المرأة وتبضيعها واستغلالها واضطهادها وتأبيد اللامساواة بينها وبين الرجل فإن، مناخ الاشتراكية والديمقراطية، يلائم معاملة المرأة ككائن إنساني واحترام حريتها وحقوقها وإقرار المساواة بينها وبين الرجل.

وهنا لا بد من دفع شبهة يمعن بعض رموز الحركات الإسلامية في ترويجها مفادها أن "العلمانية تفسد الأخلاق". إن العلمانية لم تفسِدْ ولا يمكن أن تفسد الأخلاق، بل إنها على العكس من ذلك ساعدت تاريخيا على تنسيبها وتطويرها والارتقاء بها. فما دامت الأخلاق، من منظور علماني، جملة القيم التي تنتجها مجموعة بشرية معينة، وتحديدا الطبقات السائدة في ظرف تاريخي معين، وتفرضها على باقي المجتمع كأخلاق عامة تبرر بها سيطرتها ومصالحها، فإنها تبقى قابلة للنقد والمراجعة والتغيير، ولا يمكن النظر إليها، كما يزعم بعض "رجال الدين" الذين خدموا الأنظمة العبودية والإقطاعية كـ"قيم مطلقة وسرمدية" بهدف تأبيد خضوع الفقراء للأغنياء، والعبيد للأسياد، والأقنان للإقطاعيين، والنساء للرجال، والسود للبيض، وأتباع الأقليات الدينية أو العرقية والقومية للطائفة المسيطرة، إلخ. ففي حين يعلن رجل الدين الرجعي مثلا أن اللامساواة بين الجنسين "مبدأ إلهي" غير قابل للتغيير وعلى النساء الإذعان له، تعلن العلمانية أنها "نتاج تاريخي". ولـّدته علاقات اجتماعية معينة، كانت المرأة فيها في موقع دوني، وأن العصور الحديثة وفـّرت الشروط اللازمة لتصبح المساواة المبدأ الأخلاقي الجديد الذي يوجه العلاقات بين الجنسين وأنه من اللا أخلاقي أن يواصل اليوم شخص الدفاع عن اللامساواة التي ترمز إلى عصور متخلفة ووحشية من تاريخ الإنسانية، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى الرق، فمن يجرؤ اليوم على مواصلة الدفاع عنه، بينما كان في العصور الغابرة، وإلى حد القرن العشرين في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ظاهرة عادية وكانت الأخلاق السائدة تقتضي أن يخضع العبد لسيده ويتصرف كمتاع من أمتعته. وخلاصة القول فإن أعداء العلمانية عوض أن يحمّلوا الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية بما فيها النظام الرأسمالي اليوم، مسؤولية هذا النمط من الأخلاق أو ذاك، يلقون باللائمة على العلمانية لأنهم في الواقع يريدون فرض أنماط أخلاقية على المجتمع باعتبارها "حقائق أبدية" ومن بينها اللامساواة بين الجنسين التي يضفون عليها طابعا قدسيا.

(3) أحكام الشريعة: التاريخ/النسبية:
أشرتُ في مداخلتي إلى أن أحد أهم المشاكل التي تعاني منها الحياة الفكرية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو إلباس المسائل الدنيوية، العَلمانيّة، لبوسًا دينيا، وتحويلها إلى مسائل لاهوتية وإضفاء طابع قدسي وإطلاقي عليها وتحريم الخوض فيها وتكفير كل دعوة إلى تعديلها أو تغييرها. ففي الأوساط الدينية المحافظة والتيارات السلفية والأصولية مثلا يعتبر تعدد الزوجات وعدم المساواة بين الرجل والمرأة وحرمانها من حقوقها الأساسية بما في ذلك أحيانا حقها في الدراسة والشغل وممارسة مختلف المهن والوظائف العمومية وقوامة الرجل على المرأة و"حقه" في تأديبها ضربا، جزءا لا يتجزأ من "العقيدة الإسلامية" ومن "الهوية العربية الإسلامية" وبالتالي فإن الطعن في تلك الأحكام والمواقف والممارسات يعتبر طعنا في الدين والهوية.

وليس هذا الموقف موقفا، هامشيا معزولا اليوم، بل هو موقف شائع، مؤثـّر شديد التأثير خصوصا مع المد الذي يعرفه مجددا الفكر السلفي بكل تلويناته وتيارات الإسلام السياسي بمختلف فروعها. وقد أحدث هذا الواقع ارتباكا شديدا داخل القوى الديمقراطية العلمانية التي تعددت ردود فعلها. ونودّ التعرّض بصورة خاصة إلى ردّتي فعل من بين هذه الردود، ويتمثل الأول في التراجع عن الدفاع عن حقوق المرأة من موقع عَلماني، تقدمي، واللجوء إلى "حجج دينية" للدفاع عن هذه الحقوق اقتداء ببعض أعلام المدرسة الإصلاحية الإسلامية أمثال الطاهر الحداد وقاسم أمين ومحمد عبده وغيرهم، ممّن حاولوا إعادة تأويل النص الديني لتحميله معاني جديدة تتوافق مع ضرورة تحرير المرأة من العديد من القيود التي تكبلها. وقد نحا البعض الآخر منحى مناقضا لهذا التوجه إذ يغالي في نقد الإسلام متهما إياه بأنه السبب الرئيسي في الأوضاع التي تعاني منها المرأة، ويردّ ردا انفعاليا على كل إشارة إلى الإسلام أو إلى الهوية العربية الإسلامية حتى لو لم تكن لها أية علاقة بالحركات السلفية والأصولية. إن هذين الموقفين أحاديا الجانب ويتطلبان منا توضيحات وتصحيحات عدة حتى يستقيم أمرهما.

إن الموقف الأول يتميز، كما لا يخفى على أحد، ببعض النجاعة السياسية لما فيه من مراعاة إن لم نقل من "تحيّل"، على الذهنية العامة للناس، بما أنه يحاول أن يقنعهم بأنهم، بتبنيهم لهذا المكسب أو ذاك من المكاسب المتعلقة بالمساواة بين الجنسين والتي تحققت في العصور الحديثة، لا يخرجون من "قشرتهم" أي لا يتخلون عن "دينهم" و"هويتهم" و"تراثهم" أي أنهم يبقون "هُمُ" وهو ما يريح ضمائرهم، ويقيهم ولو نسبيا، من بعض الارتباك أو الشعور بنوع من الانفصام. لكن لهذا الموقف حدوده ومساوئه، لا لسبب هشاشته المنهجية في مواجهة "المحافظين" الذين يمكنهم أن يستخرجوا من النصوص الدينية، آيات وأحاديث كثيرة قادرة على "مهزلة" التأويلات التي يقوم بها أصحاب ذلك الموقف وإظهار طابعها الملفق (خصوصا إذا كان الموقف الوارد في تلك النصوص واضحا) بل لأنه يحوّل المعرفة إلى مجرّد عملية تأويل مستمرة للنصّ. فالنص مطلق، ثابت، جاء بكافة المعارف، وفي كافة الميادين مرة واحدة وما على المسلم إلا أن "يولّد" أو "يستنبط" منه، عن طريق إعادة التفسير والتأويل وفقا لمقتضيات العصر، وهو ما ينزع عن المعرفة بشكل عام وعن المعارف الواردة في النص بشكل خاص طابعها التاريخي. إن المعرفة غير معزولة إطلاقا عن التجربة والممارسة التاريخيين في كل المجالات وتحديدا في العلم والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وبما أن المعرفة تاريخية فهي مثلها مثل كل الظواهر التاريخية، تتطور وتشهد في تطورها تراكمات كمية كما تشهد قفزات نوعية تنتقل فيها من طور إلى طور تتم فيه مراجعة المعارف السابقة في هذا الميدان أو ذاك، فيكون لذلك انعكاس على حياة الإنسان الفكرية (نظرته لنفسه وللمجتمع والطبيعة) والمادية (وسائل عيشه...).

وفوق ذلك فإن هذه النظرة التأويلية تطمس ما يقوم به "المؤوّلون" من مجهود معرفي، ذلك أن المواقف التي يعبرون عنها هي في الواقع منطلقة من معارف عصرهم الناجمة عن سيرورة تاريخية عاشتها مجتمعات أخرى متقدمة أو تعيشها مجتمعاتهم ولو بشكل جزئي ومحدود أو حتى مشوه كما هو حال المجتمعات العربية. ولكن هؤلاء يحاولون تقديمها على أنها موجودة أصلا في النصوص الدينية أو أن هذه الأخيرة لا تعارضها مبدئيا. ويكمن الجانب السلبي في هذا المنهج في أنه يشجع المؤمن/المسلم على نوع من الكسل والخمول الفكريين، فهو عوض أن يجتهد ويبحث وينقد ويراجع ويتجاوز أو حتى يقطع ويؤسس، أو بالأحرى ينتج معارف جديدة في هذا المجال أو ذاك، يكتفي باستهلاك المعارف التي ينتجها الآخرون المتقدمون عنه تاريخيا، مع محاولة "تأصيلها" أو "تجذيرها" بشكل تلفيقي في ثقافته. إن المعرفة لا ينتجها إلا من يدرك أنها حصيلة بحث وصراع مع القديم الذي تجاوزه الزمن. فالمساواة بين المرأة والرجل مثلا ليست موجودة من قبل في أي حضارة من الحضارات، ولم تقرّها بشكل تام وفعلي أي شريعة من الشرائع لأسباب تاريخية بالطبع، وهي نتاج العصور الحديثة التي سجلت تطورات نوعية في كافة ميادين الحياة، وحتى في هذه العصور لم تأت المساواة ولم يقع إقرارها كمبدأ عام إلا عبر صراعات مضنية خاضها النساء وأنصارهن من الرجال التقدميين. لذلك فأن يقول المرء إن المساواة بين الجنسين "موجودة في النص أصلا" وتكفي قراءته وتأويله من جديد على هذا النحو أو ذاك، إنما هو يوقع المسلم، عن وعي أو عن غير وعي، في خلط من شأنه أن يحدّ من جهوده لكسب المعرفة وإنتاجها إضافة إلى أنه لا يتيح له التعامل مع تاريخه وثقافته من زاوية نقدية. إن النصوص، كل النصوص، بما في ذلك النصوص الدينية لها تاريخيتها أي أنها مرتبطة باللحظة التاريخية التي ولـّدتها أو وُلِدَتْ فيها وهي تحمل بالضرورة سماتها.

هذا في خصوص الموقف الأول. أما الموقف الثاني فإن ما يتسم به من تشنج إزاء الإسلام لا تفسره إلا النظرة اللا تاريخية إلى هذه الديانة، وهي نظرة لا تختلف في لا تاريخيتها عن النظرة المقابلة التي تعتبر أحكام الإسلام أو شريعته "خارجة عن التاريخ" و"صالحة لكل زمان ومكان". إن الإسلام، موضوعا في إطاره التاريخي، شكّل "ثورة" في اللحظة التي جاء فيها، والعبارة ليست لي، وإنما هي لكارل ماركس، واضع أسس علم التاريخ الحديث. وقد شكل الإطار الفكري والسياسي لأعظم حضارة في العصر الوسيط، وأدخل إصلاحات على وضع النساء مقارنة بوضعهن السابق، في مكة والحجاز خاصة. وظهر خلال القرون الأولى للإسلام مفكرون استنكروا الوضع الدوني للمرأة في ما تعلّق بتعدد الزوجات، أو حجبهن في البيوت واستعبادهن (المعري، الجاحظ، ابن رشد...). ولما توقفت الحضارة العربية الإسلامية عن التطور وتحديدا عن الانتقال إلى مرحلة الرأسمالية لأسباب لا يسمح المجال بشرحها وسيطر على المجتمعات العربية والإسلامية الجمود الفكري والعقائدي، ازداد اضطهاد النساء وأصبغ الفقهاء وضعهن الدوني بصبغة قدسية، وربطوا ذلك الوضع بـ"إرادة إلهية". وكان النساء في البلدان المسيحية يعانين وقتها من نفس الأوضاع بل أحيانا من أوضاع أقسى وأشدّ. ولكن ما حصل هو أن هذه البلدان شهدت نهضة كبرى بظهور الرأسمالية فيها التي توّجت بثورات سياسية واجتماعية وفكرية ذات طابع بورجوازي خلقت إطارا جديدا لطرح مسألة تحرر النساء من عبودية القرون الوسطى. وفي الوقت الذي كان فيه النساء في أوروبا في القرن 19 ينهضن، كانت الأوضاع في المجتمعات العربية والإسلامية راكدة وأوضاع النساء فيها متخلفة، وفي هذه اللحظة حصل الانفصال بين وضع النساء في أوروبا ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية ثم حصل لاحقا الانفصال بين وضع النساء في معظم بلدان العالم التي شهدت تحولات ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية التي حافظت على أنظمتها القديمة. ولا يمكن تحميل مسؤولية تخلف أوضاع النساء العربيات والمسلمات إلى الإسلام في حد ذاته، فهذه نظرة مثالية مغلوطة. إن الإسلام جاء في لحظة تاريخية محددة وقام بدور هام في تطوير وضع المجتمعات العربية القديمة ولكنّ المسؤولية مسؤولية المسلمين الذين لم يطوروا أوضاعهم ولم ينهضوا كما نهض الأروبيون، وحافظوا على بناهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التقليدية المتخلفة، التي سهلت سيطرة الاستعمار عليهم. وبما أنهم لم يتطوروا ولم ينهضوا فإنهم لم يشهدوا ثورات فكرية واجتماعية وسياسية، كما أنهم لم يشهدوا حتى حركة إصلاح ديني عميقة كالتي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر. ولم ينتجوا معارف جديدة ولم يحدثوا تحولات جوهرية في أوضاع النساء. وما يزال العرب والمسلمون إلى اليوم يعانون من التخلف لأنهم، لم يشهدوا، رغم كل المحاولات، ثورة جذرية على أوضاعهم، لأسباب داخلية وخارجية، منها الهيمنة الامبريالية الاستعمارية في أشكالها القديمة والجديدة من جهة وأنظمة العمالة والاستبداد من جهة ثانية. وهذا التحالف معيق للتطور والتحديث في المجتمعات العربية والإسلامية وهو في أحسن الأحوال يقود إلى تحديث مشوه. ولا يمكن تحقيق نهضة عميقة وشاملة قادرة على الارتقاء بوضع النساء إلا بالقضاء على هذا التحالف. وهذه المهمة لا يمكن أن تنجزها إلا الطبقة العاملة المسنودة بالشعب، لأنها هي القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة، في غياب بورجوازية وطنية، على قيادة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية عميقة ولكن هذا الأمر يبقى مشروطا بوعيها بذاتها وبدورها الاجتماعي. لذلك فإن محاولة ربط التأخر الحالي الذي تعاني منه أوضاع النساء بـ"الإسلام" في حد ذاته هو تفسير مثالي، دون أن يعني ذلك أن الإيديولوجيا الدينية ليس لها دور في عرقلة تحرر النساء، ولكن هذه الإيديولوجيا تفعل فعلها من خلال البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التقليدية، وما يسهّل تجاوزها هو تثوير هذه البنى، وقتها ستتوفر الظروف لتتهاوى تلك الإيديولوجية وتحل محلها إيديولوجيا تقدمية.

إن ما أردنا قوله هو أن التشنّج الذي يبديه البعض حيال الإسلام لا يمكن أن يقنع عامة الناس الذين سيرون فيه استفزازا لمشاعرهم الدينية. ولكن هل يعني ذلك عدم نقد الشريعة أو الدين أو الفكر الديني بصفة عامة، بدعوى عدم المساس بتلك المشاعر. لا، أبدا! إنما المسألة تتمثل في معرفة أي مدخل يمكن اعتماده لمناقشة أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة مثلا، مناقشة هادئة، موضوعية، مقنعة، لا مجال فيها لاستفزاز المشاعر الدينية من جهة أو لتقديس أحكام الشريعة من جهة ثانية. إن هذا المدخل هو التاريخ الذي قال عنه ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية": "نحن لا نعرف إلاّ علما واحدا وهو علم التاريخ" تأكيدا لأهميته في معرفة تطور الحياة البشرية والقوانين العامة التي وجّهتها وحكمتها. والتاريخ هو الذي يمكّننا من تنسيب الأشياء. فوضع كل حكم من أحكام الشريعة في إطاره التاريخي أي في إطار الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يتنزل فيها من شأنه أن ينزع عنه كل طابع إطلاقي ويبين لماذا كان على ذلك النحو وليس على نحو آخر ويضفي عليه بالتالي صبغة انتقالية في مجرى التاريخ المتطور باستمرار.

لقد بينتُ في مداخلتي مثلا الطابع التاريخي، النسبي، الانتقالي لأحكام الميراث وارتباطها بالعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة وقتها في مكة والحجاز، وأكدت أن هذه الأحكام تجاوزها الزمن بتجاوز الظروف التي أنشأتها ومجيء ظروف جديدة أصبح فيها للنساء موقع جديد في العلاقات الاجتماعية بسبب خروجهن إلى الشغل ومساهمتهن في الحياة العامة. ويمكننا إضافة مثال ثان وهو حدّ قطع يد السارق. فهذا العقابُ كان سابقا للإسلام وابتدعه حسب الإخباريين الوليد بن المغيرة (والد خالد) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، ج-5، ص 605) في مجتمع قبلي لم تكن فيه لا دولة ولا سلطة قضائية ولا سجون، فكانت الأحكام تتخذ طابعا ماديا مباشرا. وكان حكم قطع يد السارق سُنّ في وقت قريب من الإسلام، فلما جاء الإسلام حافظ عليه (حتى وإن رفض مبتدعه الوليد بن المغيرة دخول الإسلام)، وهو ما لا ينزع عنه طابعه التاريخي، النسبي والانتقالي، لكن الفقهاء أصبغوه بصبغة إطلاقية، وجعلوه فوق التاريخ. ولئن تجاوزه عدد من البلدان الإسلامية التي أصبحت تطبّق قوانين وضعية فإن دولا أخرى ما تزال تطبّقه كما تطبّق عقوبات بدنية أخرى مثل الجلد والرجم. كما أن تيارات سلفية عديدة ضمنت برامجها تطبيق الحدود. وهي تدعو إلى التراجع عن القوانين الوضعية التي استبدلت عقوبة قطع يد السارق بعقوبة السجن، وهو ما يجعلها خارج التاريخ وضد التقدم الإنساني الذي أعطى للجسم حرمته وآمن بإمكانية الإصلاح، وتشوه صورة المسلم وتسهّل على القوى الامبريالية والاستعمارية تقديمه على أنه "متوحّش" و"متخلف".

إن التاريخ إذن يبقى هو المدخل للتنسيب، ولتيسير نشر الوعي في صفوف جماهير الشعب بشكل عام وجماهير النساء بشكل خاص حتى تتصدى للفكر الرجعي المتخلف الذي يتستر بالدين، ويصبح التقدم وبالتالي مبادئ الحرية والمساواة جزءا من هويتها الجديدة. إن المسألة ليست مسألة صراع بين "مؤمنين" و"ملحدين" وإنما هي بين قوى التقدم التي تريد للشعب التونسي ولنساء تونس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقوى التخلف التي تشدهما إلى الوراء، عن طريق الاستغلال الفاحش والاستبداد السياسي والفكري والتبعية.

حمه الهمامي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire